الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة حين تُسرق الباء من البشر: رحلة دنيا في مسرح ليلى طوبال... صرخة ضدّ فناء الإنسانية

نشر في  28 نوفمبر 2025  (19:50)

المسرح فعل قبل أن يكون اسما، ونبض قبل أن يكون مكانا، أو كما قال جورج برنارد شو إن المسرح «دواء لأمراض المجتمع»، وها هو مسرح الجهات بمدينة الثقافة يصدّق القول في ليلة السابع والعشرين من نوفمبر.


اقتحمت الركح طفلة بفستانها الأبيض الذي يشبه غيمة هاربة من عاصفة، وربطة شعر كأنها وردة نبتت في خراب، وقفت في قلب الضوء، رفعت يديها الصغيرتين، وقالت بصوت يشبه جرسا يقرع في صدر كهف: «اليوم عيد ميلادي الخامس، أنا دنيا». ثم اختفت كأن الأرض ابتلعتها، تاركة خلفها فراغا يصرخ.

Peut être une image de danse et texte

هكذا انطلقت رحلة البحث عن "دنيا"… أو عن "الدنيا" التي ألهتنا حتى صرنا مجرّد قطرات من حيوانات منوية تسبح في مستنقع الزمن، بشر فقدوا حرف الباء من اسمهم.

مسرحية "كيما اليوم" التي عرضت ضمن فعاليات الدورة السادسة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية، هي ثمرة إنتاج مشترك بين المسرح الوطني التونسي وشركة "الفن مقاومة"، تحمل توقيع ليلى طوبال في الكتابة والإخراج والسينوغرافيا، أدّى الأدوار كل من مايا سعيدان، أصالة نجار، دينا وسلاتي، فاتن شرودي، خديجة محجوب، وأمان الله التوكابري.

Peut être une image de enfant et texte

نبشت ليلى طوبال في "كيما اليوم"، في أعماقنا بلغة شعرية منسوجة كنسيج العنكبوت الذي يلمع تحت القمر، خيوط رفيعة لكنها تقطع اللحم. طرحت أسئلة وجودية تشبه سكاكين تغرز في الصمت: من نحن؟ أين نذهب؟ هل ما زلنا بشرا أم صرنا ظلالا تسمّى بشر؟ تحدثت عن تناقضات النفس البشرية، الضياع الجماعي، الظلم، والقبح في العالم المعاصر، وبالتأكيد لم يغب الأمل في خطاب طوبال، الأمل في استعادة الإنسانية المفقودة.

تخيّل العالم يغرق في حروبه وكوارثه، فيقرر تسليم آخر عينات البويضات والحيوانات المنوية إلى سفينة نوح حديثة.. تنقلب الشاحنة، تموت العينات كلّها إلا بويضة واحدة وحيوانا منويا واحدا، يلتقيان في أنبوب زجاجي وسط الدمار، فيخلقان جنينا يسمّى «دنيا».

 صورة مجازية وصرخة إنسانية أطلقتها طوبال ضدّ الظلم والقبح المستشريين، مؤكدة أننا أمام طريقين لا ثالث لهما إما الحياة أو الفناء. دقت نواقيس الخطر فالإنسانية في خطر، ولا بد أن نكون يدا واحدة ونتبرع إلى بنك الإنسانية حتى تعود الباء إلى البشر في عصر غلب عليه الشر.

تبلغ دنيا الخامسة، وقبل أن تلوثها أنياب العالم، تسمع صوتا يطلع من جوف الأرض كأنه أنين أم مدفونة منذ آلاف السنين: «ارجعي يا ابنتي، اتركي هؤلاء الذين يأكلون أبناءهم». تحيط بها الشخصيات، كل يتشبث بدنياه المريضة: هذا يحب ماله، وذاك سلطته، وتلك جسدها المستلب.

Peut être une image de danse et texte

 

لكن دنيا تغيب، تاركة إياهم في متاهة من الظلال والصمت والبكاء المكتوم، عالقة بين الدنيا المنشودة والواقع المظلم .

هي رحلة رمزية داخل متاهة، متاهة القيود والتحديات، رحلة البحث عن إنسانيتنا قبل أن تندثر وسط القيّم المشوهة .

الركح فارغ إلا من جدار أسود مثقوب كأنه وجه الأرض المثقوب بالحروب والأنانية والنسيان، أو ربما ذاكرتنا المثقوبة. تتحرك الشخصيات بين الضوء الأبيض الناصع كالحليب المسموم والظلام القاتم الذي يبتلع الأجساد كحوت أسود.

اللغة في "كيما اليوم" لم تكن كلاسكية، بل لغة شعرية تشبه ترانيم الكنائس القديمة، كما اعتمدت ليلى طوبال في مسرحيتها على إيقاع سريع مع موسيقى تارة صاخبة كعواصف تمزق السماء وتارة هادئة كبكاء طفل في قبر.

Peut être une image de danse

كلما علت الموسيقى ركضت الشخصيات كالقطيع المذعور في حركات تنم على التيه والضياع، وكلما هدأت الموسيقى تبوح هذه الشخصيات بدواخلها، تعبرعن نفسيتها الممزقة، عن ماضيها وآلامها الداخلية أو عن المسكوت عنه من عنف أسري مدفون، تنمر ينزف، هويات مفقودة وأحلام قبرت في الرحم.

وفي اللحظة التي بلغ فيها التيه ذروته وأظلمت الدنيا كلها، عادت دنيا وسط سرب من الفراشات الملونة، كأنها آخر قطرة ضوء في عين محتضر، عادت لتقول: ما زال هناك أمل لكن الأمل ليس هدية، الأمل تبرع نقدّمه لبنك الإنسانية كي تعود الباء إلى البشر.

في "كيما اليوم" صرخت ليلى طوبال بصوت يشبه صوت الأنبياء حين ييأسون من قومهم..  لا للقبح، لا للموت، لا للاستسلام. نعم للحب، نعم للمقاومة، نعم للإنسانية. فبعد أشد الظلام يأتي النور.

هي صلاة لإنقاذ ما تبقى منا قبل أن نمحى من دفتر البشرية فنصير دون هوية دون أسماء ولا ملامح .. دعوة للحياة بكل ما فيها من أمل، أو كما قالت ليلى طوبال في آخر كلمة قبل أن يسدل الستار: "يا نعيشوا.. يا نعيشوا".

ختاما نشير إلى أن هذا العمل المسرحي ضم كل من فاتن جوادي كمكلفة بالإنتاج، وأمان نصيري مساعدة مخرجة، وعمار لطيفي في تصميم الكوريغرافيا. أما تصميم الإضاءة فأشرف عليه صبري العتروس، والهندسة الصوتية لمحمد هادي بلخير، مع مساهمة محمد بدر بن علي في تقنيات المابينغ، وتصميم الملابس لمروى منصوري، والتصميم الغرافيكي لسيف الله قاسم.

سناء الماجري